عالرّف


جلست في مقعد الطائرة وأخذت نفساً عميقاً وأنا أغمض عيني قليلاً محاولةً إبطاء تسارع يومي المزدح. لا شيء يبدو حقيقياً حتى اللحظة ، ولا شيء مما سيحدث يبدو قابلاً للتصديق. وهنا تكمن جمالية الحلم.
أقلعت الطائرة وعدتُ أنا بذاكرتي إلى الوراء. عندما قرأت ذلك الإعلان منذ ستة أشهر أو أكثر : ” حوّل أفكارك إلى حقيقة “. كان إعلاناً لمسابقة تشجع جيل الشباب على كتابة خطة عمل لمشروع مميز يحمل فكرة إبداعية. تذكرت حلمي الأزلي ومشروعي الذي أطمح ببنائه في يوم ما لكني لم أكن أملك أية فكرة عن كتابة خطة العمل. اكتشتفت أن المنظمين لهذه المسابقة سيقيمون محاضرتين لتوضيح الأفكار الأساسية لأي خطة عمل. كنت سعيدة جداً . حضرت المحاضرتين، قرأت المزيد على الانترنت ، سألت الأصدقاء ، وبدأت بالعمل. لم يكن الأمر بحاجة سوى إلى قليل من التخطيط والكثير الكثير من الشغف. في منتصف الشهر الرابع ، كان الموعد النهائي للتسليم. كنتُ أعاني من ازدحام شديد بين الأعمال الجامعية المطلوبة مني وقتها وبين هذا المشروع ، لكني تمكنت من إيجاد وقت له و.. تم الإرسال.

اختلست النظر إلى ساعتي التي أعتقد أنها ملت مني لفرط مانظرت إليها كل دقيقة على أمل أن تتوقف عقاربها قليلاً كي لا أتأخر على الموعد ولأني وجدتُ أن تلك الأمنية لن تتحقق فقد عدت وأغمضت عيني علّي أتوقف عن التفكير بالوقت والزمن.

بعدما أرسلت خطة العمل الخاصة بمشروعي، كنت أشعر بالرضا عن نفسي ولأول مرة أشعر بإيمان عميق بما قمت به. لا زلت حتى اللحظة لا أستطيع أن أنسى منتصف الشهر الخامس عندما أعلنت نتائج التصفية للمسابقة وتم اختياري ضمن أفضل عشر متسابقين لأنتقل إلى المرحلة النهائية. كنت أقفز في المنزل طوال الوقت وأنا أصرخ ” ترشحت .. ترشحت ! ” كان خبراً جميلاً وحدثاً مهماً في حياتي. لقد أشعل ألف شمعة أمل لي وأعاد توازني وقوتي. لم يبق شيء الآن سوى مقابلة الحكام في آخر الشهر الخامس. وهذا كان الجزء الأصعب.

اخترق صوت المضيف ذاكرتي ليعلن وصول الطائرة إلى مطار حلب. نظرت إلى الساعة من جديد ، لم أعد أملك كثيراً من الوقت خاصة أن الطائرة تأخرت في الإقلاع. يجب أن أصل إلى الفندق بأسرع وقت ممكن. نظرت إلى أخي الذي رافقني وأسرعنا بالخروج من الطائرة ومن المطار لركوب أول سيارة أجرة تصادفنا وانطلقنا في أرض حلب الشهباء.

“إن مشروع (عَ الرّف) يهدف إلى نشر الثقافة في مجتمعنا وتشجيع الشباب والفتيات على القراءة التي باتت من المنسيات بتقديم خدمات مميزة ونشاطات مختلفة وإتاحة الوصول إلى عدد كبير من الكتب المتنوعة التي تلائم كافة الاحتياجات بأسعار مناسبة للجميع”

وقفتُ أمام مرآة غرفتي بكامل أناقتي بعد أن قلبت خزانتي رأساً على عقب محاولة ارتداء أفضل ما لدي، وأخذت أعيد الجملة وأنا أتخيل نفسي أمام الحكام الذين سأقابلهم بعد بضعة ساعات.كنت أبتسم كثيراً وأنا أتحدث ، كانت هناك ثقة غريبة تنساب بين كلماتي وتوصل حجم الإيمان الذي أملكه في هذا المشروع. بعد أن تأكدت من تغطيتي لكافة الأفكار في عقلي وأني لم أتجاوز الوقت المخصص، خرجت من المنزل واتجهت إلى مقر المقابلة، ولأني خفت من التأخير فقد وصلت باكراً مما حتم علي الجلوس والانتظار ورؤية بقية المتنافسين التسعة.هناك صُدمت بحقيقة . أنا الفتاة الوحيدة والأصغر سناً بين المتسابقين النهائيين. شعرت بقلبي يخفق بقوة وأنا أحاول الابتسام وإظهار الثقة على وجهي والأسئلة تتزاحم في رأسي. هل سأستطيع مواجهتهم جميعاً ؟ كلهم يبدو عليهم منظر رجال الأعمال المرموقين والمخضرمين وأعمارهم بلا شك فوق الثلاثين عاماً ، أين أنا بينهم ؟
طردت تلك الأفكار من رأسي وحاولت التركيز في مشروعي. كنتُ سعيدة بمجرد وصولي إلى هذه المرحلة من المسابقة. مجرد اختياري ضمن أفضل عشرة مشاريع كان إنجازاً عظيماً بالنسبة لي. وسواء فزت أو لا ستبقى تلك التجربة من أجمل الأشياء التي جربتها في حياتي.
طال انتظاري ، بقيت أربع ساعات قبل أن يأتي دوري، ويفتح الباب الكبير على مصراعيه لاستقبالي، جلست على الطاولة الكبيرة مقابل خمس رجال، ورغم وجود لوحة صغيرة تحمل اسم كل منهم على الطاولة إلا أنني لم أستطع رؤية حرف. أخذت نفساً عميقاً وبدأت العرض . كنت متوترة في البداية ، لكني انسجمت في الشرح والحديث ونسيت رهبة الموقف وتسللت ثقة إلى داخلي لتحل محل الخوف. أنهيت الحديث بابتسامة وبدأت الإجابة على أسئلتهم تباعاً ومناقشتهم في بعض التفاصيل، ثم شكروا حضوري وشكرتهم بدوري وخرجت من المكان بسرور بالغ وشعور بأني خطوت أكبر خطوة في حياتي منذ لحظات.

وقفتُ أمام مرآة غرفة الفندق بكامل أناقتي و وضعت اللمسات النهائية على وجهي. أعتقد أني حطمت الرقم القياسي في عملية ارتداء الملابس والتزين بالنسبة لامرأة ستذهب لحضور حفل عشاء في الشيراتون! انتهيت خلال خمسة دقائق وخرجت مسرعة من الفندق أنا وأخي الذي أوقف سيارة أجرة من جديد واتجهنا إلى الحفل النهائي. التقطت أنفاسي في السيارة وأخذت أفكر في أن اليوم ، الثاني عشر من الشهر السادس هو بلا شك أطول يوم مر علي في حياتي. صباحاً كنت أعد حقيبة سفري ، ظهراً كنت مع صديقاتي ، عصراً كنت أقدم امتحاناً في الجامعة ، بعدها مر أخي لاصطحابي إلى المطار ، ثم شاهدت الغروب قرابة الساعة الثامنة في حلب . وها أنا في الساعة التاسعة تماماً أدخل باب الفندق الكبير – الذي بني ليشابه قلعة حلب – ولا أصدق أني وصلت أخيراً إلى هنا.

أنا هنا ، أنا هنا ليتحقق حلمي الجميل ، ومازلت لا أصدق.

كان الحفل في مكان مفتوح من الفندق، الطاولات المستديرة منتشرة في الأرجاء ، وألحان موسيقى عذبة تنساب لتضفي روعة على المكان. كل شيء يبدو أنيقاً. أرشدني أحدهم إلى طاولة المتسابقين النهائين ، والتقيت هناك بكل من قابلتهم سابقاً يوم المقابلة. للحقيقة فإن معظمهم لم يستوعبوا فكرة وجودي هنا. كانوا يتبادلون الأحاديث كرجال أعمال مهمين ويوزعون بطاقاتهم الشخصية فيما بينهم. لم ألقِ بالاً لهم ، وجلست أتابع الحفل. انتبهت أن الموسيقى التي أسمعها هي من عزف فرقة موسيقية سورية تقف على المسرح الذي يبعد عني بضع خطوات. ولم أكتشف أنهم فرقة سورية إلا في الأغنية التالية لأنهم كانوا يغنون أغنية اسبانية لحظة وصولي. كانت فرقة جميلة بحق ، غنت الكثير من الأغاني وعزفت موسيقى رائعة وتنوعت بين القديم والجديد وفيروز والسريع والبطيء. بعد ذلك تم إلقاء بعض الكلمات من قبل منظمي المسابقة والحفل. كان موعد إعلان الفائزين بالمراتب الثلاثة يبدو بعيداً جداً إلا أني لم أكن على عجلة من أمري ، كنت أستمتع بهذه اللحظات المميزة في حياتي بالإضافة إلى روعة الأجواء. في الساعة العاشرة والنصف تقريباً بدأ الإعلان ، وسكت الجميع ، وسرى في المكان صمت مترقب. كانت النتيجة بترتيب تصاعدي ، أي أنها بدأت من المرتبة الثالثة ، وتم إعلان اسم المشروع الذي احتل هذه المرتبة ثم نهض صاحبه وسط تصفيق الجميع وعدسات المصورين ليستلم الجائزة. صفقت مع المصفقين ثم بدأ إعلان المرتبة الثانية ، سمعت صوتاً داخلي يقول بتوسل: أرجوك يارب أرجوك أرجوك أرجوك. ثم سمعت مايلي : المشروع الذي فاز بالمركز الثاني … ( ع الرف) … سعاد.

حتى هذه اللحظة ، كل شيء يبدو غير قابل للتصديق ، كل شيء يبدو كمشهد حلم جميل جداً أستمتع به وحين أستيقظ تأتي الخيبة لتببده. الفرق الوحيد هو أنه حلم تحقق. الفرق الوحيد أني لست أحلم ، بل تحقق حلمي. ولا شيء .. لا شيء أبداً يعادل هذه اللحظة.

حين سمعت اسم مشروعي ثم اسمي يذاع على الملأ شهقت برعب وكأن شيء باغتني. قفزت من مكاني وعقلي يعجز عن تحليل أي شيء وكأنه توقف لبرهة من الزمن. اتجهت إلى المنصة وصوت خفقات قلبي يبدو لي أعلى من صوت الموسيقى الاحتفالية التي وضعت لهذه المناسبة. كان هناك ألف ضوء عدسة مصور أمامي ، لم أعرف لمن أبتسم ، كنت أبتسم فحسب . كنت أشعر بكل خلية في جسدي تبتسم وتضحك. استلمت الجائزة وعدت إلى مكاني وسط التصفيق .. التصفيق الذي كان يصعد من داخل أعماقي ، التصفيق الذي كان يهطل من السماء إلى سمعي. لقد وصلت إلى أرض الحلم. ولا شيء في الدنيا يمكن أن يبعدني عنها بعد الآن.
رغم أن الحفل استمر ليعلن النتيجة الأولى لكن بالنسبة لي توقف الزمن كله ، ولم يعد هناك شيء يهم. بدأت الاتصالات تغزو هاتفي ، تلقيت مباركات أصدقائي وأهلي. جُنّ أصدقائي وبكى والدي. بعدها تلقيت مباركات المتسابقين البقية الذين شعروا بوجودي لحظتها وأن أصغر فتاة في المسابقة يمكنها حقاً أن تتفوق عليهم. شعرت وكأن هالة نور سقطت علي من السماء ، وبعد أن كنت شبه شفافة بالنسبة لهم ، ظهرت من العدم لأثبت وجودي. وجود الأنثى في مسابقة كهذه.
أكملت الفرقة الموسيقية عزفها بعد إعلان النتائج وبينما كان الجميع يرقص ، أجريت لأول مرة في حياتي مقابلة إذاعية ، ثم بعض مقابلات صحفية (أذكر جريدة بلدنا ، ومجلة شبابلك). تحدثت قليلاً عن المشروع والمسابقة وحلم تحقيقه على الواقع حيث أعلنت إحدى المنظمات رغبتها في تبني المشاريع العشرة النهائية وتحقيقها لكني لم أستطع معرفة المزيد من التفاصيل عن الموضوع.
بقيتُ حتى الواحدة ليلاً ثم عدت إلى غرفة الفندق وسهرت أتأمل الشهادة التي تحمل اسمي والدرع التذكاري الذي يحمل اسم مشروعي.

ياللحظة فخر كتلك،
يا الله .. شكراً.

غفوت من التعب وأنا أعانق حلمي الذي أصبح حقيقة في تلك الليلة.
لقد استطعت أن أثبت لأهلي حقيقة من أنا ، واستطعت أن أثبت للمجتمع من هي الأنثى ، واستطاع الله أن يثبت لي ضرورة الإيمان بالحلم مهما كانت الظروف قاسية، واستطاعت الحياة أن تقنعني أنها مازالت قادرة على مفاجأتنا.

في اليوم التالي ، زرت قلعة حلب وتأملت حجارها التي بقيت على مر السنين وخاضت أقسى المعارك والظروف. شعرت بشيء يشبهني فيها. لم أستطع التجول فيها كاملةً لضخامتها ولحرارة الطقس المرتفعة وقتها. ذهبت بعدها إلى الغداء مع المجموعة المنظمة للمسابقة، وتناولت أطيب المأكولات الحلبية (وخاصة اللحمة بكرز .. لازم تجربوها) لا أذكر أني أكلت بهذه الشهية منذ زمن طويل جداً. اتجهت بعد الغداء إلى محطة القطار وقطعنا التذاكر عودة إلى دمشق .جربت ركوب القطار لأول مرة وأعجبت به جداً.

وصلت أخيراً إلى دمشق ، بعد يومين حافلين من الحلم الجميل. ورغبة شهية بحياة طويلة أكمل فيها مشواري الخاص.

شكراً ، لمن آمن بي ، دعمني ، خفف قلقي وأزال تشاؤمي.

أهديك هذا النجاح.

Related Links:

JCI Syria

Baladna OnLine

SANA Sy

ChamPress

14 تعليق to “عالرّف”

  1. (no name) Says:
    الف مبروك ونورتينا بحلب
    انا كنت حاسس انو في شي غير طبيعي بهاليومين بحلب كانت حليانة زيادة
    طلعتي عنا يا سوس
  2. ريـــانـــة Says:
    ألف مبروك سوس
    إيمانا بالحلم نفسو وأنو بيوم رح يتحقق كفيل بأنو يوصلنا لالو
    مبروك عليكِ الجائزة اللي هي بمثابة ثمرة تحدي وصبر وثقة ومتل ما قلتي إيمان
  3. Fatosha Says:

    ألف ألف مبروك

    حسيت قلبي عم يدق يدق وأنا عم بقرأ

    بالفعل أنت بتستاهلي وأكتر

  4. Faduma Says:
    Congratulations Soaad
    I found your space by a coincidence after I read 3la raff in shabablek in the Private Dairy post
    I was captured by your words, I felt like I was with you during the trip and then the celebration
    I hope you fulfil all your dreams
    p.s nice to see you SooS 😉
    Kind regards
    Faduma
  5. S Says:

    http://www.champress.net/?page=show_det&select_page=14&id=27579

  6. Rasha Mitri Says:

    sousssss
    ma ra7 2lek gher…btstahli hal naga7 w aktar mn hek.yaaaaaaaa..my creaive friend,…w a7la cluster la 3younek….hehhehe

  7. SooS Says:

    Thanks All for your comments. Glad to share this with u :)Regards,

  8. Zeina Says:

    Toteeeeeeeeeee el3azemehh…
    You TOTALLY deserve it girl 😉
    100000000 mabrook… it is a turning point in ur life habibti..

    See u around…

    (by the way..shaheeetiniii el la7me be karazzz…it’is delicious..)

  9. Alex Says:

    سووس ..
    لا أدري لماذا أطير منذُ قرأتُ الخبر ..
    لستُ أنا من لمس خيالي الشمس .. و لكن كلماتك أحرقت أصابع شوقي!!

    أنتِ أحلى كل يوم .

  10. Mohammad-online Says:

    مبروك سعاد

    شي بيرفع الراس و مبعث للمفخرة.

    منو لاحسن إن شاء الله

  11. soos Says:

    زينة ، علي ، محمد

    شكراً من القلب..
    سعيدة لوجودكم هنا ..

    تحية

  12. باسل Says:

    تحيّة من كل قلبي، تحيّة لهذا الإندفاع الذي تحميلينه..
    تمنّياتي لك بالنجاح الدائم

  13. soos Says:

    شكراً باسل لأمنياتك.. لك كل الودّ

  14. ع الرّف – الخطوة الثانية « ندفة ثلج Says:

    […] تلقيت دعوة لحضور الملتقى الذي يساعد في خلق فرصة لأصحاب المشاريع بالتواصل مع ممولين محتملين لمشاريعهم. وكانت الدعوة بناء على مشاركتي السابقة في مسابقة الغرفة الفتية الدولية لأفضل خطة عمل عام 2008 وحصولي على المرتبة الثانية بمشروع ع الرف. […]

اترك رداً على SooS إلغاء الرد