فوضى نسبية

لا شيء يستدعي الكتابة سوى لون عينيك

قطفت الياسمينة البيضاء المتدلية من إحدى الحدائق على الطريق وأكملت طريقي إلى العمل. لم تكن هناك فكرة مسبقة عما أحاول الكتابة عنه ولا أعرف كيف سينتهي هذا النص.

أحمل بقلمي سطراً واحداً أردده وأنا أكتب:

لا شيء يستدعي الكتابة سوى لون عينيك

وأكتب، لا لشيء إلا لأرى انعكاس وجهك على حروفي البعيدة.. لاتبتسم بعد. لم أبدأ بالحديث عنك، ولم أنتهي.. ولن أنتهي.

مازلت لم أعتد فكرة الجلوس خلف الحاسب لتسع ساعات متواصلة في محاولة لكتابة نص لآلة! كل يوم علي أن أكتب لآلة مجموعة من رسائل أخبرها فيها ماذا يفترض أن تفعل وماذا سوف يحدث إن هي فعلت ذلك وإن هي لم تفعل وماذا سوف يخبرها أحدهم وماذا عليها أن تخبره. قد تبدو الفكرة مملة جامدة إلا أني أجد نفسي بطريقة ما أمارس هوايتين معاً : الكتابة والعزف على البيانو!.

حتى هذه الكتابة البرمجية تعرضت لنفس محاولات التقليص الشائعة لاختصار الوقت والجهد وبشكل أو بآخر اختصار المتعة. كما تحول الكلام من قول شفهي إلى كتابة بالقلم ثم إلى كتابة جامدة على لوحة المفاتيح .وآخر المحاولات هي تغيير حتى حروف اللغة وتشويهها بطريقة عجيبة لمجرد مواكبة التطور  .

كل يوم نختصر الكلام أكثر.
وصوتك لا تستطيع النصوص استيعاب كل دفئه ببرودة حروفها. ياه .. كم تختصر التقنية من روحك حين تحملك إلي. كم يضيع من ألقِك بين إشارات الكترونية تحاول فصلك إلى أصفار وواحدات، وتعجز.

غادرت العمل يومها وأنا أشعر بفوضى نسبية في كل الأفكار التي حملتها بين كتفي. أجبرتني المواصلات على المشي قليلاً فكانت فرصة لأبحث عن قشة أتعلق بها لأخرج من حالة الفوضى تلك. أخرجني من أفكاري صوت فتى بسيط يصرخ لرفيقه على الرصيف المقابل للشارع:

– ” غسلت سبع سيارات بسطل واحد!”
كان سعيداً جداً. وأعاد جملته مرة أخرى ليسمعه صديقه أو ربما لتسمعه روحه.

أي سعادة تلك التي تحملها غسيل سبع سيارات بدلو واحد ؟

أسرعت الخطى لأهرب من المكان وأنا أشعر بروحي تختنق. هل يمكن لطفل مشرد يعيش على غسيل السيارات أن يكون أكثر سعادة مني في لحظة كتلك؟
مشيت كثيراً. لم أشعر إلا وعيناي تفيض بالدموع خلف نظارتي الشمسية.
أي روح قتلت داخلي.. أي روح وأدت.

رغم الألف هواية التي أمارسها إلا أنني مازلت أشعر بجوع لإنجاز أكبر. مازلت لم أولد ومازلت لم أقف على قدمي.

كم أتوق لأن أكون الآن في الأربعين من عمري. بجانب رجل أحب. أقوم بعمل أهواه. وأشعر بتلك الراحة النفسية الناتجة عن الاستقرار. لا أعرف لم يستمر الجميع في حسد الشباب. الصغار يريدون أن يكبروا بسرعة، والمسنون يتمنون العودة بالعمر إلى تلك الفترة. ألم يخبرهم أحد أنها أكثر المراحل العمرية تخبطاً وضياعاً؟ ألم يخبرهم أحد أنه سيواجههم كل يوم قرار عليهم أن يفكروا بكل إيجابياته وسلبياته ويعبروا طريقاً سيشكل منعطفاً هاماً في حياتهم المستقبلية؟

قطفت ياسمينة ثانية قبل أن أصل إلى البيت، وعدت لأتذكر وجهك بين وريقاتها البيضاء.

مازلت صخرتي.

مازلت ثابتاً في مكانك مهما ضيعتني الأيام.

تنتشلني من كل تلك الأفكار التي تدفعني إلى الجنون.

مازلت تؤمن بجنوني. ومازلت أفتقدك بجنون.

11 تعليق to “فوضى نسبية”

  1. باسل Says:

    جميل جدّا.. حديثك يلامس الروح.. نعم للأسف في فترة الشباب نضيع مابين مانحب أن نفعل، وبين ما ينبغي أن نفعل، ونرزح تحت وطأة مسؤولياتنا.. حتّى نختنق!
    خالص ودّي

  2. uramium Says:

    ندرك نسبية فوضى ذواتنا حين نصدف ضياء سكون يجلي عنها ضبابيتها ليبدي ثقل وطأتها على الروح.
    عندما كنا صغاراً تطلعنا إلى اليوم الأربعيني الذي ذكرته وعندما عشته أدركت قصور تصوراتي في طفولتي، كنت أظن العيش بسعادة رهن باختياراتي الحسنة وهو احتمالي الأول ، أما الثاني أن تكون الظروف عكس هذا، لم أفكر في احتمال أن أكون أنا ذاتي خياراً سيئاً لظروف حسنة.

    لم تضع منك عباءة اللغة ولا أقلام إبداعك. أهنئك

  3. soos Says:

    باسل
    بين ما نحب أن نفعل وماينبغي أن نفعل هناك كم هائل من الفوضى والضغط النفسي. لكن عندما نجد الطريق المناسب يصبح كل شي يستحق تلك التجربة.

    لك ودّي

    رامي
    مازلنا نتطلع كل يوم إلى اليوم القادم، إلى العام القادم، إلى الحياة القادمة. كم لحظة تضيع في هذه التطلعات؟
    أن تكون أنت ذاتك خياراً سيئاً لظروف حسنة هو مفاجأة بالتأكيد قد تصادفنا في طريقنا. لكن الطريق طويل. والظروف كثيرة. كنت أقرأ اليوم الجملة التالية:

    ———–
    كل أحداث حياتكم بدون استثناء حتى اللحظة الراهنة خلقتموها بأنفسكم بمساعدة قناعاتكم على أساس الخبرات الماضية . لقد خلقتموها بمساعدة الأفكار والكلمات التي استخدمتموها البارحة , الأسبوع الماضي , الشهر الماضي , السنة الماضية , ,10 ., 20 , 30 , 40 سنة مضت , حسب عمركم .

    *إن الشيء الذي نؤمن به يصبح حقيقة .

    ———-

    من يدري إلى أي درجة يمكن اعتبار هذا القول صحيحاً؟

  4. ستلمس أًصابعي الشمس Says:

    أوافقك الرأي تماما
    نحقق الكثير من طموحاتنا وتبقى لدينا حالة الضياع
    نحقق الكثير من رغباتنا ونبقى عاجزين عن ايجاد تلك الطمأنينة

    ربما من هم الاربعين ليسو مرتاحين تماما ايضا
    هي مجرد قوام شخصية

  5. maram_soft Says:

    يعني واو من دون تعليق
    يعني والله اختصرت بشكل جميل ومنمق كل البلاوي يلي بتصير براسي من وقت ما فيق لوقت ما بنام
    الله يعطيكي العافية
    وانا كمان بحلم متلك صير سيدة مجتمع بالاربعين وعم وصل اولادي ع المدرسة وودع جوزي بقبلة لطيفة الصبح
    يا ترى من هون لبعد 20 سنة شو رح يصير ؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

  6. soos Says:

    لا أحد مرتاح.. لا من هم في الأربعين ولا من هم في العشرين.. يبدو أنها سنة الحياة. علينا أن نبحث عن تلك الأشياء الصغيرة التي تبعث الطمأنينة فينا وتختلف كلما تغيرت السنين. تحياتي

    مرام: من هون لخمس سنين .. أتوقع الكثير.. تحية

  7. غفران Says:

    ممكن تتخيلي الحياة متل سنبلة قمح مليانة كثير صعب تقدري تعدي حباتها بس انت متأكدة انو فيها كثير .
    صدقني البحث عن الاستقرار هو تجربة أمتع و أغنى من الاستقرار نفسو .
    بس أهم شي تكوني أكيدة إنو رح توصليلو بس لا تستعجلي عليه………..

    تحية للياسمين

  8. soos Says:

    “البحث عن الاستقرار هو تجربة أمتع وأغنى من الاستقرار نفسه”

    أوافق 🙂

  9. The Heart Says:

    الجنون ، الحديث عنه … يلويني !!
    وأنتِ الآن أثرتيه ، وشيء أكبر ..

    رائع ما كتبتي …. ر ا ئ ع

    🙂

  10. samajoury Says:

    رائع ما كتبتي فعلا
    حالة تخبط فظيعة التي نعيشها في عمر الشباب
    ونتمنى ان نكبر سريعا
    أوافق وبشدة على الكثير من الآراء الواردة وأحببت هذا الخلط بين العاطفة والواقع بين جمل الحب التي تقفزبعد كل فكرة موجعة عن هذا الواقع
    تقبلي مروري
    لك مني باقة من الجوري

  11. الشجرة الأم Says:

    فوضى نسبية ..

    أنا عشت طيلة عمري في هذه الفوضى، لكن أخيرا وصلت إلى النسبية وتركت الفوضى.

أضف تعليق