لا وقت للحب

لا وقت للحب

أيعقل أن تشغلك الحياة بتفاصيلها عن لحظة حب ؟


قد مضى زمن طويل على آخر مرة خفق فيها قلبك المكابر لحب عابر ، و رقص طرباً لصوت هاتفك يرن بإلحاح ، تتمنى في قرارة نفسك لو أن كل رنة تحمل صوت من تحب . لو أن هاتفك لا يعمل إلا لأجله .. لا يستقبل إلا المكالمات التي تأتي من حباله الصوتية .. لو أن شركة الاتصالات تستجيب لك فتمنع الجميع من الاتصال عداه. وقتها فقط ستكون متأكداً أن كل رنة لن تكون سوى صوته ، وسيكون خفقان قلبك له فقط ، وليس لمتصل أخطأ في الرقم .

كل صباح ، تُعدُّ فنجان القهوة على أنغام فيروز .. فيروز التي تغني لكما . وقبل أن تفكر في فعل أي شيء آخر تسارع لتفقد بريدك في لهفة . عيناك تحبثان عن اسم واحد فقط ، عن اسمه . تطير من الفرح عندما تجده بين الرسائل . يمكن الآن لشمس ذلك الصباح أن تشرق ، فقد بدأ النهار لديك .

لا داعي لأن تتناول طعام الإفطار ، أو الغداء ، أو حتى العشاء . أنت تشعر بالشبع دون أن تتناول شيئاً محدداً . كما أنك سعيدٌ دون سبب واضح ، تتصرف على غير عادتك . يراقبك الجميع من بعيد ، قد يهمس أحدهم : " مجنون " دون أن يدري كم اقترب من الحقيقة . فلا شيء كالجنون يصف العاشق .

يعبر النهار لديك ببطء ، تتعمد عقارب الساعة أن تغيظك أنت وحدك . تحاول أن تشغل نفسك بأي شيء ، فتكون كمن يحاول خداع نفسه . كيف تهرب من الهواء ؟ من خلايا جسدك .. من دمك .. ممن يتشبث بك ويزيد تغلغلاً في أعماقك كلما حاولت التخلص منه ؟

تجد أفضل حل أن تستلم له ، تدعه يحتلك . تفتح له كل أبوابك ليهزمك ، وأنت موقن تماماً أنه مهزوم هو أيضاً .. فذلك في النهاية هو سركما المشترك .. كلاكما مهزوم ، كلاكما يسقط .

أجمل حب هو ذلك الذي يهزم الاثنين معاً .

تتمنى لو تشاركه كل تلك التفاصيل العابرة التي تحدث معك يومياً ، وقد لا يحدث شيء ، لكنك تصر على إخباره كيف بدأت النهار ، وكيف أنهيته . ستخبره كل التفاصيل ، وتكثر تلك التفاصيل ، وعندما تلقاه .. تنسى كل تلك التفاصيل . يتوقف الزمن ، أو قد يبدأ لحظة تلقاه ، وبالأدق ، لحظة تلمحه ، وكأنه وُلد من العدم . يُصر على أن يكون رائعاً كما كل مرة .. كما كان .. وكما سيكون دوماً .

تتذكر بعد قليل عندما يضيق نفسك أنك لم تتنفس منذ لمحته ، فتأخذ شهيقاً عميقاً – حتى لا تقطع دقائقك معه كل قليل بالتقاط أنفاسك – و تحاول جاهداً أن تحافظ على جزيئات جسدك من التطاير فرحاً وحماساً بلقائه .

قد تتساءل : ترى هل يلاحظ الجميع حولي ما أراه ؟ كيف لا يحدث معهم ما يحدث معي والمشهد واحد ؟
و رغم كل الضجيج حولك ، فأنت لا تسمع سوى صوته .. كل ذبذباتهم لا تشعر بها أذنيك ، ولا تقبل سوى التردد الذي يتحدث هو به

لا تقنعني أنك لن تتحدث معه عن الطقس ، أو على الأقل لن تقتل به صمت أول جملة . فلا حديث للعشاق يخلو من حالة الطقس ، وكأنه ملهمهم . وبعد أن يستفتحوا الحديث به يمكنهم أن يتحدثوا عن أي شيء آخر .. أقل أو أكثر أهمية .. لا يهم .

لا يفصل بينكما سوى فنجاني قهوة ونظرات متبادلة . تشعر أن هذا الجزء من العالم يكفيك . حاكمين بدون شعب تشكلان جمهورية مستقلة ، لا يهمك ما يحدث في الجزء المتبقي خارج حدودكما . فليشنوا من الحروب ما يشاؤون هناك ، فالسلام في منطقتك لا بد متسرب إليهم ذات يوم .

ثم يمضي ، كسراب .. من العدم ، وإليه . يختفي في لحظة لا تكفي سوى لاشتعال عود كبريت . ينتابك حزن لا مبرر له سوى الكمية الهائلة من السعادة التي استنزفتها أثناء لقائه . وتبدأ منذ تلك اللحظة بعد الدقائق لإعادة المشهد مرة أخرى ، في زمان آخر .

ثم تبتلعك الدنيا من جديد . تمر الأيام ، ويرحل .. لا يهم السبب كثيراً ، لا يهم من المخطئ ، من ترك من ، كيف حدث كل ماحدث . لقد رحل .. تركك مكبلاً بالذكريات .. و مضى . يتوقف الزمن لديك عند هذا التاريخ . في مثل هذا اليوم من كل عام .. رحل . في مثل هذا المكان ، في مثل هذا الزمان .. رحل .

فيروز لم تعد تغني لكما ، والقمر اختار عاشقين جديدين يسهر معهما . و كلما جربت الهرب قليلاً ، لمحت شيئاً من قصتكما مبعثراً على طاولة مقهى ، منزوياً خلف منعطف شارع ، أو مختبئاً في نسمة عطر .. عطره . مازالت رائحته تهب مع كل نسمة هواء ، فتلتفت بلهفة علها تحمله معها ، لتجد الخيبة تضحك لك ، أو عليك .

عبثاً تهرب . تتغير الدنيا ، تشعر بألوانها تبهت شيئاً فشيئاً ، و سماؤها توشك أن تطبق على أنفاسك ، تفضل أن تخنقك السماء على أن ت
تالك الذكريات ، أو تلك الغصة التي زرعها في حلقك منذ رحل .

أي لعنة تلك التي تصيب العشاق عندما يفترقون ؟

ولأنك قوي- كما يصر الجميع من حولك على إقناعك -يجب ألا تهزم ، ألا تدعه ينهش ما تبقى من روحك . تتشاغل باللعب مع الحياة قليلاً .. تكرر دائماً بينك وبين نفسك : لا وقت للحب ..

العمل يستنزف من جهدك الكثير ، ولا وقت للحب .

والداك بحاجة إليك .. أصدقاؤك ، لا وقت للحب .

الوضع السياسي متأزم ، ولا وقت للحب .

فلسطين محتلة ، العراق في فوضى ، أمريكا تخطط ، ولا وقت للحب .

وعندما يأتي آخر الليل ، تسمح لك الدنيا بلحظات مع نفسك . تبعثر روحك ، تعيد ترتيب أجزائك في محاولة جاهدة لإيجاد القطعة الناقصة ، تكتشف أنه أخذها معه قبل أن يرحل . تكتشف أنك مازلت تسكن فيه ، وأن لا وقت للحرب ، ولا للسلام .

لا وقت للولادة ، ولا للموت .

لا وقت للأهل والأصدقاء ، للعمل ، للراحة .

لا وقت سوى للحب .

رد واحد to “لا وقت للحب”

  1. alo Says:

    لم يكن عندي وقتٌ للقراءة …
    بدأت عيوني تدور فوق تلك السطور التي استعدّيت مسبقاً لأن تكون عظيمة ..و لم أفلح بجعل مروري عابراً
    لا وقت للحب ..
    لا وقت للقراءة ..
    لكنني و للمرة الأولى عرفت كي أخترع الوقت .. للقراءة و للحب !!

أضف تعليق